يتجه مستقبل العراق الاقتصادي نحو الانهيار والمجهول عاما بعد آخر مع تزايد حجم الديون الخارجية والداخلية عليه، ويؤكد اقتصاديون تجاوز حجم الديون المتراكمة حاجز 100 مليار دولار، أغلبها ثمار العمل السياسي ما بعد عام 2003، وفشل الحكومات المتعاقبة في إدارة الدولة اقتصاديا وأمنيا وسياسيا وصحيا.
في العُرف الاقتصادي، تلجأ الدول عادة إلى الاقتراض الداخلي أو الخارجي عندما تكون إيراداتها العامة عاجزة عن تغطية النفقات العامة، التي تتطلبها الأحوال الطارئة؛ مثل الحرب وحالة التضخم الشديد لتمويل مشروعات التنمية، إلا أن مسودة الموازنة لعام 2021، التي صوّت البرلمان العراقي عليها، ثبت فيها العديد من القروض الخارجية، التي تُثقل كاهل العراق اقتصاديا، وتلزمه بدفع الديون حتى عام 2048 مع الفوائد المترتبة على تلك القروض.
ديون خارجية وداخلية
نجح العراق عام 2004 في شطب نحو 100 مليار دولار أميركي من ديونه على خلفية توقيع اتفاقية نادي باريس، كما يقول المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، في حديث له، واصفا الاتفاقية بـ”المعيارية” لحل الديون السيادية المترتبة بذمة العراق لـ65 دولة، منها 19 دولة ضمن نادي باريس و46 دولة خارجه.
ويعدّ نادي باريس مؤسسة غير رسمية تمثل تجمع الدائنين من الدول الغنية في العالم، والذي أنشئ عام 1956 نتيجة المحادثات، التي تمت في باريس بين حكومة الأرجنتين ودائنيها، ويتولى النادي مهمة إعادة هيكلة الديون السيادية للدول، أو تخفيف أعباء بعض الديون، أو حتى إلغاء بعضها مثلما حدث عندما قام النادي بإلغاء كافة ديون العراق في 2004.
وغالبا ما تستند قرارات النادي إلى توصية من صندوق النقد الدولي؛ لكن يصبح القرار السياسي للبلد رهنا لصندوق النقد الدولي.
وكشف صالح أن الديون الداخلية والخارجية بلغت 113 مليار دولار، تشمل 40 مليار دولار ديونا معلقة منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى تراكم الديون بسبب الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ومشاريع التنمية التي قدمتها بعض الصناديق العالمية، وتبلغ إجمالا 23 مليار دولار واجبة الدفع.
وللحكومة العراقية -وفق صالح- ديون داخلية تبلغ 50 مليار دولار، إضافة إلى ديون معلقة لـ8 دول، منها إيران والسعودية وقطر والإمارات والكويت، وتبلغ 40 مليار دولار، وهذه الدول لم تشطب ديونها بعد، رغم أنها خاضعة لنادي باريس، وهناك 23 مليار دولار واجبة الدفع إلى صناديق تنموية.
وفي 1991، تشكلت لجنة أممية للتعويضات، ألزمت بغداد بدفع 52.4 مليار دولار كتعويضات للأفراد والشركات والمنظمات الحكومية وغيرها، ممن تكبد خسائر ناجمة مباشرة عن غزو الكويت.
خطوات حل
الشفافية بالنسبة للقروض العراقية من الحكومة ووزارة المالية يعدّها الباحث الاقتصادي، عقيل الأنصاري، الخطوة الأولى لحل مشكلة الديون، ليتم فهمها ووضع حلول لها.
ويتابع إن “القروض الداخلية في أغلبها من مصارف حكومية تابعة لوزارة المالية، وإن الإيداعات في مصرفي الرافدين والرشيد من 80% إلى 85% هي لمؤسسات حكومية، في وقت اقترضت الحكومة أغلب الأموال لسداد رواتب موظفي تلك المؤسسات”.
أما الخطوة الثانية أن تقدّم مؤسسات الدولة كافة حساباتها الختامية وكشف حساباتها المصرفية، وتستقطع هذه الأموال وفق النسبة من تلك الحسابات، ويذلك يمكن أن تُطفأ نسبة كبيرة من الديون الداخلية.
وفيما يتعلق بالقروض المعلقة، فيشدد الأنصاري على ضرورة عودة العراق إلى نادي باريس، وإعادة التفاوض عليها مرة أخرى، وعلى أقل تقدير جدولتها بشفافية مع المجتمع الدولي وبمساعدة مجموعة الاتصال الدولية المشكلة العام الماضي في لندن، وتضم عضوية دول مجموعة السبع والبنك الدولي وصندوق النقد.
أما الـ23 مليار دولار لصناديق التنمية والقروض الدولية، فإن هذه القروض بشروط ميسرة وفوائدها قليلة، ومدتها طويلة الأمد، مثل القرض الياباني بمبلغ 7.4 مليارات دولار لمدة 40 سنة تنتهي عام 2043. والبقية تمتد من 5 إلى 35 سنة متفاوتة؛ أي إن العراق إذ لم يقترض بعد ذلك سوف يكون قادرا على سداد ديونه بحدود عام 2048 ما عدا قروض نادي باريس.
وللابتعاد عن القروض، يؤكد الأنصاري في حديثه للجزيرة نت، أنه يتعين على الحكومة أن تسعى إلى تحويل الشركات والمؤسسات إلى تمويل ذاتي؛ أي إن المؤسسة هي المسؤولة عن رواتب موظفيها، وتدريجيا تتحول أغلب مؤسسات الدولة إلى التمويل الذاتي، وذلك بخطة تنموية لمدة 3-5 سنوات، مع العمل على تأهيلها إداريا وفنيا لتكون منتجة لا مستهلكة لمقدرات الدولة، والأهم هو تدقيق ومتابعة الحسابات المصرفية لتلك المؤسسات لمعرفة حجم أموالها، التي هي أموال الدولة العراقية.
وأيضا الابتعاد عن القروض الاستهلاكية (التشغيلية)؛ أي القروض لدفع الرواتب فقط، ولا مشكلة في القروض الاستثمارية التي بالنتيجة سوف تسدد نفسها بنفسها.
غياب الإرادة الحقيقية
ويقر عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية، علي اللامي، بعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لإيقاف القروض أو تسديدها وإيقاف فوائدها، في وقتٍ بلغت فوائد الإقراض في الموازنة الأخيرة نحو 15 مليار دولار من الدين الخارجي.
ويدعو اللامي إلى إيقاف الديون وجدولة الموجود منها بالأرقام الصحيحة والحقيقية لبناء اقتصاد الدولة بشكل صحيح والنهوض به، ويرى أن بإمكان العراق تسديد كافة ديونه إذا وجدت نية حقيقية وإرادة سياسية وراء ذلك؛ لكنه سرعان ما يعود إلى نقطة الإحباط، حيث يجد أن من الصعوبة أن يتمكن العراق من تسديد ديونه حتى 2048، عازيا السبب في ذلك إلى مشاكل البلد والمفاجآت التي تحدث فيه.
وينتقد اللامي الحكومة العراقية المعتمدة على النفط فقط في تأمين وارداتها، والتي تصل إلى أكثر من 90%، داعيا إلى تعدد الموارد لا سيما في قطاعات السياحة.
إرادات خارجية
بدوره، يتهم الكاتب والمحلل السياسي، أحمد الخضر، من أسماها بـ”إرادات إقليمية ودولية” تريد إبقاء الوضع الاقتصادي مترديا في العراق، وتمنع تطوره، ويعدّ ضعف العراق مكسبا سياسيا واقتصاديا لهذه الدول، ويقول إن بقاء الملف المالي والاقتصادي شائكا في العراق يبقيه ضعيفا ومديونا.
وفي حديثه للجزيرة نت، يحمّل الخضر الحكومات المتعاقبة بعد 2003 عدم وضع خطط مالية صحيحة لتوزيع الثروات وتنمية المصادر المالية للبلاد؛ بل على العكس تماما كانت هناك فوضوية وفساد كبيران، ما أدى إلى انتكاس الوضع الاقتصادي سنة بعد أخرى، منتقدا عدم استعانتها بخبراء اقتصاديين لمعالجة هذه الأزمة، ومستغربا من إقصاء طاقات اقتصادية عراقية من مجال عملهم.
ويختم الخضر حديثه باقتراح لحل أزمة الديون العراقية بتشكيل مجلس اقتصادي أعلى للبلاد من ذوي الاختصاص والخبرة والكفاءة، وإعطائه الصلاحيات الكاملة لمعالجة الأزمات المالية، محملا الحكومة والبرلمان في الوقت ذاته مسؤولية التدهور الاقتصادي في البلاد.