إنفاق 100 مليار دولار لتأهيلها.. ما أسباب تعطل مصانع العراق رغم ارتفاع معدلات البطالة والفقر؟
نسبة العاطلين عن العمل في العراق بلغت 14% للأشخاص النشطين اقتصاديا الذين يشكلون 56% من عدد السكان
قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وعلى مساحة تقدر بنحو 200 دونم أنشئت المدينة الصناعية في محافظة الديوانية جنوب العراق، وهي تضم عدة معامل لإنتاج الملح والمنظفات وتعبئة الشاي والحليب وتفريط وطحن الذرة، وغيرها من المعامل التي لم تر النور بسبب الإهمال وعدم توفر الخدمات الضرورية لتشغيلها.
يقول علي جدعان وهو أحد أصحاب المعامل المتوقفة إن “هذه المعامل تابعة لبلدية محافظة الديوانية، وتم استئجار الأرض وفقا لعقد دائم بشرط بناء معمل حسب قانون الاستثمار الصناعي للقطاعين الخاص والمختلط رقم (20) لسنة 1998، وبعد أن أنشأنا عددا من المعامل التي كان من المؤمل أن تشغل أكثر من 500 عامل على الأقل، إلا أنها تعطلت بسبب عدم وصول الخدمات الضرورية ومن أهمها الماء والكهرباء التي كان يجب أن تتوفر وفقا للقانون أعلاه، ومع ذلك نحن مجبرون على دفع الإيجار والضرائب ومبالغ أخرى إلى الجهات الحكومية”.
ويضيف جدعان أنهم طرقوا كل الأبواب الحكومية وناشدوا جميع المسؤولين، إلا أنهم لم يجدوا آذانا مصغية.
إنفاق وخسائر
ويؤكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الصناعة مرتضى الصافي أن العدد الكلي للمصانع والمعامل في القطاع العام العراقي هو 288 مصنعا في كافة المحافظات، من بينها 83 متوقفة عن العمل، تتنوع بين القطاعات الدوائية والكيميائية والغذائية والنسيج وغيرها.
وفي آخر إحصائية لوزارة التخطيط صدرت عام 2018، فإن نسبة العاطلين عن العمل بلغت 14% للأشخاص النشطين اقتصادياً الذين يشكلون نسبة 56% من سكان العراق البالغ عددهم نحو 40 مليون نسمة، وفقاً للمتحدث الرسمي باسم الوزارة عبد الزهرة الهنداوي، مشيراً إلى أن نسبة الفقر في العراق بلغت 26% أي بواقع 10 ملايين فقير.
ورغم أن الدولة أنفقت بحدود 120 تريليون دينار (101 مليار دولار) لتأهيل الشركات العامة للفترة من 2005 إلى 2014، وكان معظمها ممولا من الدول المانحة ووزارة المالية، فإنها أخفقت في إعداد دراسات جدوى اقتصادية وفنية فعّالة لأغلب عقود الشراكة التي أبرمتها مع الشركات الأجنبية والمحلية للنهوض بواقع المصانع العامة.
كما أنها لم تحقق نهضة نوعية بتلك التعاقدات تتناسب مع النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، بل تسببت أغلب تلك التعاقدات باستمرار خسارة الشركات العامة وعدم تحقيق أي أرباح تساعدها على النمو والتطور، حيث لا تزال تلك المصانع عاجزة عن تأمين رواتب موظفيها ويتم تغطيتها من خلال المنح التي تقدمها وزارة المالية، وفقاً للخبير الاقتصادي رامي جواد، وهو أحد أعضاء مجموعة الاقتصاديون العراقيون.
وبلغ عدد الشركات الخاسرة التي لم تحقق أي أرباح منذ سنة 2003 بحدود 46 شركة من أصل 67 تابعة لوزارة الصناعة، بالإضافة إلى خسارة جميع الشركات التابعة لوزارة الدفاع والمعنية بالصناعات الحربية وكذلك خسارة جميع الشركات العامة التابعة لوزارة الكهرباء.
أسباب متراكمة
ويرى جواد أن هيمنة الدولة على أغلب الصناعات في العقود السابقة وعدم وجود سياسة لحماية منتج القطاع الخاص وعدم استقرار الوضع الأمني، حال دون توجه المستثمرين لإنشاء المشاريع الصناعية الكبيرة، فعلى مستوى القطاع العام تأثرت الصناعات بعد عام 2003 وتعرضت المصانع للتخريب والسلب.
ونتيجة لذلك توقفت أغلب الصناعات الحكومية بسبب تقادم خطوط الإنتاج واعتماد الأساليب التقليدية في الإنتاج والتسويق وعدم توفير الطاقة والعزوف عن تبني استخدام التقنيات الحديثة في عمليات الإنتاج، مما تسبب بزيادة التكاليف وعدم القدرة على منافسة المنتجات المستوردة، فضلاً عن عدم التزام المؤسسات الحكومية بشراء المنتجات المحلية.
ويشير جواد إلى أن التعاقدات الحكومية التي تبرم مع الشركات الأجنبية وخصوصا في قطاع الكهرباء والصناعات النفطية تفتقر للتنسيق اللازم لتأمين احتياجات تلك الشركات بالاعتماد على المنتج المحلي، مما يدفعها إلى استيراد كافة احتياجاتها، وتعتبر الأنشطة الصناعية حلقة متصلة، فتوقف بعضها تسبب في إيقاف صناعات أخرى مرتبطة بها، مما أدى إلى لجوء الصناعيين إلى الاستيراد أو التحول إلى استيراد المنتج النهائي.
ويلفت إلى أن هناك العديد من العوامل أثرت بشكل سلبي على تراجع البيئة الصناعية المحلية، أبرزها كثرة الإعفاءات الجمركية ورخص المنتجات المستوردة مقابل ارتفاع قيمة الدينار العراقي أمام العملات الأجنبية، إضافة إلى تدفق البضائع بشكل غير قانوني، مع عدم سيطرة الحكومة على جزء كبير من المنافذ الحدودية ومنافذ الإقليم بشكل خاص.
ويشكل تدهور الوضع الأمني لسنوات طويلة عائقاً دون استغلال الموارد الأولية في المناطق المتوترة، وإنشاء مصانع لاستغلال تلك الموارد، يرافقه عدم الجدية في محاسبة الشركات المتلكئة في تأهيل بعض المصانع الحكومية، بحسب جواد.
إخفاق وزارة الصناعة
أما بالنسبة لوزارة الصناعة فإنها لا تمتلك رؤية إستراتيجية شاملة يتم إعدادها بالتنسيق مع وزارة التخطيط وفق احتياجات السوق وتحقيقاً لأهداف التنمية المستدامة 2030، كما لم تواكب الوزارة طوال العقدين الماضيين متطلبات التطور الصناعي العالمي بإنشاء مصانع حديثة وصناعات جديدة وتأهيل كوادر بخبرات فريدة تواكب التغييرات المتسارعة في سوق الصناعات، كما يرى جواد.
مبالغ ترقيعية وحكومات عاجزة
المتحدث باسم وزارة الصناعة مرتضى الصافي يعزو أسباب توقف المصانع والمعامل وتراجع الصناعة إلى قدم المعدات التي تعود إلى الستينيات، ولم يتم تحديث الخطوط الإنتاجية وتأهيلها في ذلك الوقت بسبب الحصار الاقتصادي، والاستخدام المستمر مما أدى إلى تهالكها.
وتلخصت معوقات التنمية الاقتصادية بعد العام 2003 -بحسب الصافي- بالمبالغ المالية “الترقيعية” التي تخصصها الحكومات لتأهيل المصانع والشركات العملاقة، وهي لا تتناسب مع الحاجة الفعلية، بالتالي فإن عجز الحكومة عن توفير الأموال لإعادة التأهيل أو فتح خطوط جديدة جعلها تتوجه نحو الاستثمار والمشاركة مع القطاع الخاص.
وانتقد الصافي عدم سيطرة الحكومات السابقة على المنافذ الحدودية وإغراق السوق المحلية بالمستورد، لعدم قدرة المصانع والمعامل على المنافسة، مشيداً بجهود الحكومة الحالية التي تحاول ضبط الحدود ووضع التعرفة الجمركية، مما أسهم في إعادة الحياة لبعض المصانع والمعامل المحلية.
الفساد
ويعود المختص الاقتصادي رامي للتذكير بدور الفساد المالي والإداري وتأثيره على الواقع الاقتصادي، حيث استغلت بعض الشركات الحكومية الفرص الصناعية للتعاقد في مشاريع إنشاء بُنى تحتية لمؤسسات الدولة من خلال الاعتماد على المقاول الثانوي أو الاستيراد، بدلاً من تشغيل مصانعها وكوادرها، دون وجود محاسبة فاعلة.
كما لعب العامل السياسي دوراً مهماً في تهديم الصناعة العراقية نتيجة عدم وجود جدية من قبل القوى السياسية المهيمنة على مؤسسات الدولة في توحيد الجهود والاتفاق على النهوض بواقع الصناعة العراقية، وحل الإشكالات التي تحول دون التقدم الصناعي للبلد.
ظروف سياسية
ويرى الباحث السياسي عبد الرزاق أثير أن مرحلة تدهور الصناعة العراقية بدأت بعد الحصار الاقتصادي الذي فرضه المجتمع الدولي في تسعينيات القرن الماضي، للضغط على نظام الرئيس الراحل صدام حسين للانسحاب من الكويت إبان حرب الخليج الثانية، ومن هنا بدأ الاقتصاد يتدهور في جميع قطاعاته، ومنها القطاع الصناعي.
وفي خضم الحصار كان للمنشآت الصناعية العراقية نصيب كبير من الضربات الأميركية، وهو ما جعل الصناعة العراقية تحتضر، وبعد الغزو الأميركي عام 2003 وكتابة الدستور العراقي الجديد تولد صراع بين فريق إعادة إدارة المنشآت الصناعية عن طريق الدولة، وبين فريق خصخصتها، مما أدى إلى فشل الحكومة والبرلمان العراقي في تشريع قانون واضح وحقيقي لدعم الصناعة العراقية.
ويشير الباحث السياسي إلى تأثير الدول المستفيدة من انهيار الصناعة على السياسيين العراقيين، وهو يرى أن الأميركيين لعبوا دورا مهما في منع استقرار المنظومة الكهربائية، مما اضطر العراق إلى استيراد الكهرباء من دول الجوار، وهذا ما أنتج استحالة تشغيل المصانع، لعدم وجود طاقة كافية لتشغيلها.
خطاب الكراهية
ولعب خطاب الكراهية الذي وجد في العراق بعد عام 2003 دوراً كبيراً في خلق بيئة مشجعة لتفجير الحروب الداخلية كالطائفية وتهجير العلماء العراقيين والتسبب في عدم استقرار الأمن المجتمعي، فضلا عن الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وانتشار السلاح المنفلت الذي يمنع توفير أجواء جاذبة للاستثمار، والتي يمكن لها أن تعيد الصناعة لسابق عهدها، كما يقول أثير.
ويرى أثير أن المتغيرات السياسية وتقلب المزاج الدولي والإقليمي المؤثر بشكل كبير في الشأن الداخلي العراقي جعل الحكومات المتعاقبة مكبلة في اتخاذ أي قرار إستراتيجي، مما أدى إلى انهيار سيطرة الدولة على كافة قطاعاتها الاقتصادية غير النفطية واعتمادها الكامل على سعر النفط.
ويعتقد أثير أن ارتفاع أسعار النفط لسنوات عديدة جعل من السياسي العراقي الفتي في إدارة الدولة متكل على الواردات النفطية في عملية تحصيل العائدات واستيراد السلع، وهذه العملية خففت على الحكومات المتعاقبة عناء تحمل المسؤولية في بناء اقتصاد عراقي رصين.
ويصف وضع الحكومات المتعاقبة تجاه قطاع الصناعة بـ”الشلل المتوارث” نتيجة تراكمات سببها الاحتلال والإرادات الدولية والإقليمية التي كان تأثيرها أكبر من قوة الحكومات، بل عملت هذه القوى على إضعاف بغداد كي تمنع أي محاولة لاتخاذ قرار يمكن أن ينتشل القطاعات المختلفة من الانهيار.
ويوصي الباحث السياسي بضرورة وجود طبقة سياسية تدرك تماما أن لا مناص من إعادة العراق إلى وضعه الطبيعي، بجعله “ساحة” للتقارب وتبادل المصالح، وليس ساحة للصراعات والاقتتال بالوكالة ووضع مصلحة العراق أولا، في حين يرى خبراء اقتصاديون ضرورة مكافحة الفساد ووضع إستراتيجية وطنية اقتصادية دون قبل مختصين، مدعومة بإرادة سياسية للنهوض بالاقتصاد العراقي من جديد.