علوم وتكنولوجيا

وكيبيديا تصارع مبدأ الحقيقة

الكل يستطيع تحريرها

لطالما انتقد الباحثون ويكيبيديا، وطريقة عملها التي تعتمد على “التحرير الجماعي”. فهي تتيح لأي شخص أن يعدل على المقالات، وهذا يجعل من الموسوعة المجانية سلاحًا ذو حدين. فلو افترضنا حسن النية، فإن كل ما يذكر على ويكيبيديا صحيح، ولا غبار عليه. ولكن هذه العقلية هي عقلية التسعينات التي شهدت بداية انتشار الانترنت، حينها كنا نظن أن الانترنت مكانٌ للمثقفين، الصادقين، آه كم كنا ساذجين.

تحضرني جملة ظهرت في كاريكاتير شهير للرسام بيتر ستاينر في عام 1993. يصور الكاريكاتير الذي ظهر في مجلة نيويوركر كلبين، أحدهما يجلس أمام شاشة الكمبيوتر ويقول للكلب الآخر “حين تكون على الانترنت ، لا أحد يعرف أنك كلب”.

أظن أن هذه الجملة كانت تهكمًا على ظاهرة الانترنت الخادعة، التي كانت “ظاهرة” الانترنت في التسعينات وبداية الألفينات وكيف يمكن لأي شخص أن يدعي “عكس” ماهو عليه عبر الانترنت.

نستطيع أن نفهم هذه الجملة في سياق جديد يناسب عصرنا الحالي، فقد كثر الهرج والمرج بعد أن تحررت الإنترنت من قيود الحواسيب المكتبية، وأصبحت ترافقك حتى وأنت على كرسي الحمام، ويبدو أننا نعيش عصر “مابعد الحقيقة” لأن كل شيء أصبح قابل للتزوير والفبركة.

دعونا نعود إلى ويكيبيديا، ولم ذكرتها في بداية المقال؟

فقد اكتشف أحد مستخدمي منتدى reddit الشهير أن النسخة الاسكتلندية من ويكيبيديا، تحرر وتدار من قبل شخص “لا يتحدث الاسكتلندية”. وخلال سبع سنوات قام هذا الشخص بكتابة ما يزيد عن 23,00 مقالة بلغة انجليزية “مشوهة” تحاول محاكاة اللغة الاسكتلندية، والتي لها قواعد تختلف عن الانجليزية.

لعل ما قام به هذا الشخص – الذي اتضح أنه أمريكي – كان اجتهادًا منه حبًا في الثقافة واللغة الاسكتلندية، إلا أن الضرر الذي ينتج عن هذا العمل أكبر بكثير. فبحسب الاسكتلنديين فإن هذه المقالات تعطي نظرة سيئة عن اللغة وتظهرها كنسخة مشوهة من الانجليزية. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن تدار النسخة العربية من ويكيبيديا من قبل أناس يحبون العربية وعاشوا بين العرب ولكنهم لا يجيدون من اللغة سوى بعض الكلمات، ولا يدرون عن قواعدها، هذا بالضبط ما حدث مع النسخة الاسكتلندية من ويكيبيديا، ثقافة كاملة يمثلها ويديرها شخص لا ينتمي لها.

أثار هذا الخبر حفيظة الكثير من الناس (خصوصًا الاسكتلنديين)، ونادى البعض بإغلاق النسخة الاسكتلندية من ويكيبيديا، والبعض نادى بإعادة تصحيح المسار عبر المشاركة في إعادة تحريرها، كما تعرض هذا الشخص إلى الكثير من المضايقات عبر الإنترتت – وهو شيء متوقع – ولا أدري إذا كان هناك ردة فعل رسمية من قبل ويكيبيديا.

تخيل معي أن شخصًا واحدًا كان يدير صفحة تمثل ثقافة مجموعة كبيرة من الناس وهو لا ينتمي إليهم؟ دعوني أكررها “شخص واحد”…وقس على ذلك بقية الموسوعة…ومن بعد ذلك الانترنت.

هناك مشاكل إضافية تنتج من مثل هذه التصرفات. فنسخة ويكيبيديا الاسكتلندية ستمثل عينة بيانات مشوهة جدًا من اللغة الأصلية، وأهمية هذا الشيء تكمن في تدريب الذكاء الاصطناعي. حيث يلجأ الكثير من الباحثين إلى صفحات ويكيبيديا بمختلف اللغات من أجل تدريب الذكاء الصناعي على ترجمة الكلمات وفهم اللغة، ولكن حين تكون العينة “فاسدة” فلك أن تتخيل النتيجة الكارثية التي ستنتج عنها.

دفعتني هذه القصة إلى التفكير في “ماهية الحقيقة” في عصر الإنترنت. فحتى وقت قريب كان العالم يعتقد وبشكل قطعي أن ويكيبيديا الاسكتلندية تمثل الشعب الاسكتلندي الذي يزيد عددهم 5 ملايين نسمة، ولكن اتضح أنها صناعة شخص واحد يعيش في الولايات المتحدة.

تأخذني هذه القصة إلى أحد هواجسي الدائمة وهي “من سيحكي حكايتي الآن؟”

ففي عصر يسهل على أي شخص أن يؤلف فيه معلومات كاذبة عنك، يعتمد الكثير منا على منصات يسهل التلاعب بها، لتمثل هويتنا الرقمية مثل تويتر، فيسبوك، لنكدان. لعل أأمن خيار في الوقت الحالي هو إمتلاكك لموقع شخصي تديره بنفسك، وهذا سيدخلنا في جدل بيزنطي جديد، فمن يضمن أن هذا الموقع هو موقع ثمود الأصلي؟ ومن يدير المزودات؟

كل واحد يخلي باله من لغاليغو.

للكاتب ثمود بن محفوظ

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى